مقالة منشورة في مجلة الضحى العدد العاشر تشرين الأول 1972
الديوانيّة المعقّدة
إنّ الكثرة الساحقة من المواطنين اللبنانيين ممّن لهم علاقة ما بدائرة من الدوائر الرسميّة، تشكو البطء في سير المعاملات، وأحيانًا كثيرة تشكو سوء المعاملة وعدم النزاهة، ومَرّات الاستهتار وعدم المبالاة والرغبة عن الإنجاز السريع.
مما يدلّ بوضوح، على إهمال الواجب المهنيّ ونقصان المحبّة وروح التضحية، عند غالبيّة الموظّفين إزاء أصحاب العلاقة.
وقلّما ترى شخصًا يخرج من مكتب رسميّ، له صلة شغل به، إلّا وهو مستاء من تأجيل أو تأخير معاملته والمماطلة والتسويف في إنجازها، ساخط بسبب ما يعاني من مضايقة وما يلاقي من عدم إيناس، شاتم ولاعن الأحوال التي أوقعته في ورطة، اضطرّته إلى ولوج أبواب الدواوين الحكوميّة على اختلافها.
وإذا اتّفق أن كانت بينك وبين هذا الشخص معرفة أو مودّة، بادرك بالقول المتداول على ألسن الكثيرين، والألم يحزّ في صدره، والآهة تنطلق من فيه: "من كان الله راضيًا عنه أبعده عن الحاكم والحكيم! يا ذلّ من ليس له واسطة! من ليس له ظهر فهو مقطوع الظهر".
إنّ كلام هذا المواطن العادي يؤلم النفس ويقضّ مضجع كلّ إنسان شريف! هذا المواطن الذي يكابد المشقّة ويكابد العذاب قبل نيل حقّه. يكاد يكفر بالقيم، ويكاد يكفر حتّى بالوطن. لأنّ الوطن عنده ليس خصب أديم ولا عذوبة ماء ولا قطعة سماء ولا رقّة نسيم ولا بهاء منظر ولا شموخ جبال، إنّما الوطن في نظره، هو الناس المقيمون فيه، هو الإحساس بأنّه مغمور بالإيناس والمحبّة، هو أن يلقى المعاملة الحسنة من جانب المؤتمنين على مصالح العباد، هو الشعور بأنّه ليس في مغارة أو في غاب يخاف فيه غائلة ذئاب تتربّص به لتغرز نيوبها في جسده.
الموظّف: إنّ الموظّفين الشرفاء الذين يعملون على إرضاء المواطن بتسهيل معاملاته وإنصافه والتخفيف من همومه وإرشاده إلى الطريقة المثلى للوصول إلى المرام، أولئك الذين لا يتطاولون على مال الدولة ولا يستحلّونه ولا يسرقون الوقت، لَقلّة نادرة، وهذه القلّة الكريمة ذات وطنيّة صحيحة، بها يعلو الوطن وبأمثالها يسفك السائل القاني على مذبحه.
آداب الموظّف: لقد حان الوقت ونحن في زمن الصواريخ وغزو الأفلاك الذي ينبغي أن تتلاشى فيه عقليّة موظّف عهد الانتداب وعهود السلاطين! كان الموظّف الجاهل في ذلك الزمان مستبدًّا متمرّدًا: يخال نفسه فوق سائر الناس، كان في وادٍ والشعب المتخلّف في وادٍ آخر، لا يرضى بأن يعامل كما يعامل الآخرون، من بني جلدته أو وطنه، كأنّه من جبلة غير جبلة بني آدم، إذ لم تميّزه بلقب عن سائر مخلوقات الله، وأنت توجّه إليه الخطاب، كأن تقول له يا حضرة الشيخ، يا جناب البيك، أو يا أفندي أو يا آغا، مثلًا، سخط وصبّ عليك جام غيظه وهاجمك بعبارات تحدٍّ قارصة عنيفة.
الموظّف، سواء كان قاضيًا أم معلّمًا أم إداريًا، عليه أن يكون ديمقراطيًا، فيتعلّم ويدرك، قبل قبوله في منصبه، أنّ لا ميزة له على الآخرين ولا حقّ له بالاستعلاء عليهم، وأنّه خادم لهم لا سيّد، مدين لهم أيضًا بطريقة غير مباشرة، وإذا لم يفِ دينه هذا فُقدت الثقة به، وهل للمرء رأسمال أثمن من هذه الثقة؟
ووفاء دين الموظّف الذي يؤمّن له الشعب العيش عن طريق بيت مال الدولة، يكون بالولاء لأفراد هذا الشعب جميعًا، بالإخلاص في أداء العمل، في التعفّف والقناعة والتضحية في سبيل الآخرين، والإسراع في إنجاز المعاملات في نطاق المستطاع، وتجنّب المماطلة حتّى يشعر صاحب العلاقة أنّ الموظّف أخ له لا خصم، وأنّ الدولة دولته لا عدوّته، تعنى بتوفير الراحة له، وتتقاضى منه ضرائب مباشرة وغير مباشرة لتنفقها مرتّبات لموظفين يستحقونها!
وليس على الموظّف أن يستغرب سماع كلمة "خادم" إذا وصف بها! أليس جميع الناس خدّامًا بعضهم لبعضهم الآخر؟ ولقد قيل، وهو قول شائع وحقّ: "كبير القوم خادمهم" وقد قال شاعر قديم كبير:
الناس للناس من بدوٍ وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
نموذج عادي عن المعاملات المنفِّرة: لكي لا يقال إنّ كلامي يلقى على عواهنه ولا يستند إلى واقع، فإنّي مورد نموذجًا من بين مئات النماذج التي أعرفها ويعرفها غيري، لا حبًّا للانتقاد بل رغبة في الوصول إلى إصلاح الاعوجاج والقضاء على الفساد، يحدوني حبّ وطني الذي أريده أن يكون مثالًا تحتذى به جميع الأوطان، فيتحلّى فيه الموظّف قبل كلّ المواطنين، بخلق سليم كريم، لأنّ الأخلاق قبل العلم، رأس المال الأوّل أو الركيزة الأساسيّة للرقيّ والتمدّن.
النموذج: سيّدة عائدة من بلاد الاغتراب تناولت من موزّع البريد بطاقة تدعوها إلى مركز البريد الرئيسي "ببئر حسن" لأنّ لها فيه طردًا من زوجها المقيم في "فنزويلّا". ولمّا كانت منشغلة بأولادها الصغار كلّفت والدها أن يذهب إلى المركز ليتسلّم بالنيابة عنها الشيء المرسل إليها، فاستأجر سيّارة وذهب. وهناك استعلم عن المكتب المختصّ بالتسليم وانتظر مجيء دوره، عندئذٍ سلّم المأمور تذكرة هويّته المؤكّدة أنّه هو والد السيّدة مع هويّة السيّدة اللبنانيّة وجواز سفرها، فكان جواب المأمور الجافّ: "على السيّدة أن تأتي إلى هنا بالذات أو أن تفوّضك تفويضًا خطّيًا يوافق عليه المختار، لتسلّم الطرد الذي هو كناية عن قمقم دواء"! ولمّا رأى أنّ الوالد غير راضٍ عن جوابه أرسله إلى أمين السرّ الموجود في طابق أعلى من البناية، فتسلّق الدرج واستهدى إلى مكتبه، ولكن قيل له إنّه غائب، فعاد أدراجه ونقد السائق أربع ليرات بدل الذهاب والإياب! وفي اليوم التالي ذهبت السيّدة بنفسها وانتظرت هناك، كما انتظر أبوها أمس، وعندما جاء دورها وأبرزت تذكرتها قال لها حضرة الموظّف بجافّ العبارة: "عليك أن تذهبي إلى وزارة الصحّة للموافقة على البطاقة التي بيدك من قبل المسؤول في مصلحة الصيدلة هناك"، وحاولت الاعتراض فلم يجدها نفعًا، وآبت إلى منزلها بعد أن نقدت السائق خمس ليرات بدل انتقال وانتظار!
وفي اليوم الثالث حمل والدها البطاقة المشؤومة وذهب إلى مبنى وزارة الصحّة واستعلم عن المكتب المختصّ بالموافقة، فاهتدى إليه بعد جهد، وكان في الطابق السادس، وسأل عن المأمور المنوط به مثل هذه المعاملة، فرآه متلهيًّا بالحديث مع سيّدة أو آنسة جالسة إلى يسار منضدته، وبالقرب منضدة أخرى يجلس أمامها موظّف آخر، لا يعمل شيئًا، وليس أمامه أي ورقة أو أي شيء من قرطاسيّة المكاتب. وبعد انتظار، لم يطل هذه المرّة، تناول المأمور البطاقة وقال لناقلها: "يلزمها طابع بنصف ليرة". فحملها هذا وانتظر المصعد ونزل إلى الشارع وابتاع الطابع فألصقه على البطاقة التي ناولها ثانية إلى المأمور، فتناولها منه وزجّها في الدرج قائلًا: "تعود نهار غد لاستلامها". فامتعض الأب وثارت ثائرته ورفع صوته محتجًّا على تعذيب الناس بمثل هذا التأجيل وهذه المماطلة. وبعد جدال لم يخلُ من عنف و"نرفزة"، نهض المأمور ودخل غرفة مجاورة ثم عاد ليقول لناقل البطاقة المنتظر: "يمكنك أن تقابل الآنسة فلانة، الخبيرة بشؤون الصيدلة والعقاقير". فولج غرفتها وحيّاها فلم تردّ التحيّة بأحسن منها، حتّى ولم تردّها، وحدّقت فيه وتفرّست في وجهه ولم تنبس ببنت شفة، ولكن سرعان ما استدعت الموظّف وأمرته بالموافقة على البطاقة الخطيرة، فامتثل للأمر وسلّمها إلى الوالد فلم يستغرق ذلك أكثر من دقيقة واحدة!
وفي اليوم الرابع ذهبت السيّدة للمرّة الثالثة إلى المركز في بئر حسن وتسلّمت الطرد الذي في داخله قمقم دواء صغير يكاد سعره لا يساوي ربع ما كلّفتها السيّارات من أجرة. يضاف إلى ذلك ضياع ساعات من الوقت الثمين، الذي يفوق ثمن الدواء وأجر الانتقال، فضلًا عن الانزعاج وتوتّر الأعصاب!
ومختصر القول إنّي لو أردت أن أورد قصصًا مشابهة لهذه القصّة، لا بل قصصًا أكبر شأنًا منها، خبرتها بنفسي، وحوادث أخرى كابدها غيري من المواطنين، وتروج فيها أحيانًا سوق الدفع والقبض، لاستوعبت مجلّدًا ضخمًا.
إنّ هذه الحال من الفوضى والتعقيد تستوجب علاجًا يرجى من مجمّع بعبدا أن يتمكّن من توفيره لشفاء الجسم الإداريّ المريض، قبل استفحال الداء المسيء إلى صحّة لبنان! على أنّ العلاج هذا يبدأ بإحدى طريقين: إمّا طريق "الفوق" أي القمّة، وهي أسهلها وأقربها إلى تحقيق الإصلاح الذي ينشده المجموع، وإمّا طريق "التحت" أي القاعدة التي هي الشعب، وهي طريق صعبة محفوفة بالمخاطر، وليس هناك علامات تدلّ على أنّ هذا الشعب، غير الموحّد الكلمة، مستعدّ الآن أن يقوم بمثل هذا العمل الخطير!
يوسف س. نويهض